فصل: تفسير الآيات (33- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (14- 21):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}
وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان و{وَهْناً على وَهْنٍ} معناه ضعفاً على ضعف، كأنه قال: حملته أمه والضَّعْفُ يتزيد بعد الضَّعْفِ إلى أن ينقضي أمده.
وقال * ص *: {وَهْناً على وَهْنٍ} حالٌ من أمه أي شدة بعد شدة، أَوْ جَهْداً على جَهْدِ، وقيل {وَهْناً} نطفةٌ، ثم علقةٌ، فيكونُ حالاً من الضميرِ المنصوبِ في {حَمَلَتْهُ}. انتهى.
وقوله تعالى: {أَنِ اشكر لِي ولوالديك}.
قال سفيان بن عُيَيْنَةَ: من صلى الصلواتِ الخمسَ فقد شكر اللّه تعالى، ومن دعا لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقوله سبحانه: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي} رُوِي أنَّ هاتين الآيتين نزلتا في شأن سَعْدِ بن أبي وقاص وأمه حَمْنَة بنْتِ أبي سفيانَ، على ما تقدم بيانُه، وجملةُ هذا البابِ؛ أن طاعةَ الأبوين لا تُراعى في ركوب كبيرةٍ، ولا في ترك فريضةٍ على الأعيان، وتلزم طاعتُهما في المباحاتِ وتستحسن في ترك الطاعات الندب.
وقوله سبحانه: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} وصيةٌ لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء والصالحين.
وقوله تعالى حاكياً عن لقمان {يابني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ...} الآية: ذكرَ كثيرٌ من المفسرين: إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجيةٌ وتَخْويفٌ منضاف إلى تَبْيِينِ قدرة اللّه تعالى.
وقوله: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} يَقْتَضِي حضاً على تغيير المنكر وإن نال ضرراً، فهو إشعارٌ بأن المغيِّر يؤذي أحياناً.
وقوله: {إِنَّ ذلك مِن عَزْمِ الأمور} يحتمل أن يُرِيْدَ مما عزمه اللّهُ وأمَرَ بهِ، قاله ابن جريج: ويحتمل أن يريدَ أنَّ ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكينَ طريقَ النجاةِ؛ قاله جماعة. والصَّعَرُ: والميْل، فمعنى الآية: ولا تُمِلْ خَدَّك للناس كِبْراً عليهم وإعجاباً واحتقاراً لهم؛ قاله ابن عباس وجماعة. وعبارة البخاري ولا تُصَعِر، أي: لا تعرض والتَّصَاعُر: الإعْرَاضُ بالوجه؛ انتهى. والمَرَحُ: النَّشَاط، والمشي مَرَحَا: هو في غير شُغْل، ولغير حاجة، وأهل هذه الخُلُقِ ملازمون للفخر والخُيَلاَءِ، فالمَرِحُ مختالُ في مَشيه، وقد ورد في صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيدٌ شديدٌ يطول بنا سردَهُ.
قال عيَاضٌ: كان أبو إسحاقَ الجبنياني قَلَّ ما يتركُ ثَلاَثَ كَلِماتٍ؛ وفيهن الخيرُ كلُّه: اتَّبِعْ وَلاَ تَبْتَدِعْ. اتضع وَلاَ تَرْتَفِعْ، مَنْ وَرِعَ لا يَتَّسِعْ انتهى. وغضُّ الصوتِ أوقرُ للمتكلم وأبسطُ لنفس السامع وفهمِه، ثم عَارَضَ ممثلاً بصوت الحَمِير على جهة التشبيه، أي: تلك هي التي بَعُدت عن الغَض فهِي أنكَرُ الأصوات، فكذلك ما بعُد عن الغَضِّ من أصوات البشر؛ فهو في طريقِ تلك، وفي الحديث: «إذَا سِمِعْتُمْ نَهِيقَ الحَمِيرِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإنَّهَا رَأَتْ شَيْطاناً».
وقال سفيانُ الثوري: صياح كل شيءٍ تسبيحٌ إلا صياحُ الحمير.
* ت *: ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فاسألوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَأَنَّهُ رأى شَيْطَاناً» رواه الجماعَة إلا ابن ماجَهْ. وفي لفظ النسائي: «إذَا سَمِعْتُمْ الدِّيَكَةَ تَصِيحُ بِاللَّيْلِ»، وعن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمْ نِبَاحَ الْكِلاَبِ وَنَهِيقَ الْحمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ فَإنَّهَا ترى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَقِلُّوا الخُرُوجَ إذَا جَدَّتْ؛ فَإنَّ اللّهَ يَبُثُّ في لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ» رواه أبو داود النسائي والحاكم في المستدرك. واللفظ له، وقال صحيح على شرط مسلم؛ انتهى، من السلاح.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً}.
قال المُحَاسبيُّ رحمه اللّه الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنةُ: نعم العقبى. والظاهر عندي التعميمُ. ثم وقف تعالى الكفَرَة على اتِّبَاعهِم دين آبائِهم أيكونُ وهم بحالِ من يصير إلى عذاب السعير، فكأنّ القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير. فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف؛ كما كان اتّساقُ الكلام فيه؛ فتأملْه.

.تفسير الآيات (22- 26):

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}
وقوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} معناه يُخْلِصُ ويُوَجِّهْ ويستسلمْ به والوجْه هنا: الجارحة، اسْتُعِيْرَ للمقصِد؛ لأَنَّ القاصدَ إلى شيء فهو مستقبله بوجهه، فاستعيرَ ذلك للمعاني، والمحسنُ: الذي جَمَعَ القولَ والعمل، وهو الذي شَرَحه صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان. والمتاعُ القليلُ هنا هو العمر في الدنيا. وقوله: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} أي: على ظهور الحجة.

.تفسير الآيات (27- 32):

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ...} الآية. روي عن ابن عباس: أن سببَ نزولها أن اليهودَ قالت: يا محمد؛ كيف عَنَيْتَنَا: هذا القول، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
ونحن قد أُوتينا التوراةَ تِبْيَاناً لكل شيء؟ فنزلت الآية، وقيل غير هذا.
قال * ع *: وهذه الآية بَحْرُ نظرٍ وفكرةٍ، نَوَّرَ اللّه قلوبَنَا بهداه.
وقوله تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي: لأنه كله ب كن فيكون، قاله مجاهد.
وقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يريد: القيامة.
وقوله: {بِنِعْمَتِ الله} يحتمل أن يريدَ ما تحملَه السفنُ من الطَّعامِ والأرزاقِ والتجاراتِ، فالباء: للإلْزَاقِ، ويحتمل أن يريدَ بالريحِ وتسخيرِ اللّه البحرَ ونحوَ هذا، فالباءُ باءُ السببِ. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبَّارَ والشَّكُورَ؛ لأنهما عُظْمُ أخلاقه، الصبرُ على الطاعاتِ وعلى النوائبِ، وعن الشهواتِ، والشكرُ على الضراءِ والسراءِ. وقال الشعبي: الصبرُ نصفُ الإيمانِ، والشكرُ نصفُه الآخرُ، واليقينُ الإيمان كله. وغَشِي غطَّى أو قارَب، والظُّلَلِ: السحابُ.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}.
قال الحسن: منهم مؤمن يعرف حق اللّه في هذه النعم، والختَّار القبيحُ الغَدْرِ، وذلك أن مِنَن اللّه على العباد كأنها عهود ومِنَنٌ يلزمَ عنها أداء شكرها، والعبادةُ لمسديها، فمن كفر ذلك، وجحد به، فكأنه ختر، وخان، قال الحسن: الختارُ هو العدار. و{كَفُورٍ}: بناء مبالغة.

.تفسير الآيات (33- 34):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
وقوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ...} الآية يَجْزِي مَعْنَاه يَقْضي، والمعنى: لا ينفعه بشيء، وقرأ الجمهور: {الغَرور}: بفتح الغَيْنِ وهو الشيطانُ؛ قاله مجاهد وغيره، واعلم أيها الأخ أنّ مَنْ فَهِمَ كَلامَ رَبِّه وَرُزِقَ التوفيقَ لم يَنْخَدِعْ بغُرورِ الدنيا وزخرفها الفاني؛ بَل يَصْرِفُ هِمَّتَه بالكُلِّيَةِ إلى التزود لآخرته؛ ساعياً في مَرْضَاةِ ربه، وأنَّ مَنْ أيقنَ أنَّ اللّهَ يطلبُه صَدَقَ الطلبَ إليه كما قاله الإمام العارفُ باللّه ابن عطاء اللّه. وإنه لابد لبناءِ هذا الوجودِ أن تَنْهَدِمَ دعائمُه وأن تسلب كرائِمهُ، فالعاقل؛ من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى، قد أشرق نورُه وظهرت تباشيرُه، فَصَدَفَ عن هذه الدار مُغْضِياً، وأعرض عَنها مولياً، فلم يتخذْها وطناً، ولا جعلها سكناً؛ بل أنْهَضَ الهمَّةَ فيها إلى اللّهِ تعالى وَصَارَ فِيهَا مُسْتَعِيناً به في القدومِ عليه، فما زالت مطيةُ عَزْمِهِ لا يَقِرُّ قرارُها. دائاً تَسْيَارُهَا، إلى أن أناخَتْ بِحَضْرَةِ القُدَسِ، وبساطِ الإنْسِ، انتهى.
وَرَوَيْنَا في جامع الترمذي عن أبي أُمَامَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفٌ الحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاَةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرَّ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ؛ لاَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً؛ فَصَبَرَ على ذَلِكَ، ثُمَّ نَفَضَ بِيَدِهِ فَقَالَ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ نَوَائِحُهُ؛ قَلَّ تراثه»، قال أبو عيسى: وبهذا الإسنادِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْمَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً، قُلْتُ لاَ، يَا رَبِّ، ولكن أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً، أَوْ قَالَ: ثَلاَثاً أَوْ نَحْوَ هذا، فَإذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إلَيْكَ، وَإذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ» قال أبو عيسى: هذا حَديثٌ حسنٌ، وفي الباب عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، انتهى. والغُرُورُ: التَّطْمِيعُ بما لا يَحْصُلُ. وقال ابن جُبَيْرٍ: معنى الآية: أن تَعملَ المعصيةَ وتَتَمَنَّى المغفرة، وفي الحديثِ الصحيح: عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ تعالى؛ وتلا الآية: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث...} إلى آخرها» قال أبو حيَّان {بِأَيِ أَرْضٍ}: الباء ظَرْفِيةٌ والجملة في موضع نَصْبٍ ب {تَدْرِي}. انتهى.

.تفسير سورة السجدة:

وهي مكية، غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا} إلى تمام ثلاث آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)}
قال جابر: ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام حتى يقرأ: {الم}، و{القانتين تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك}. و{تَنزِيلُ} يَصح أن يَرْتَفِعَ بالابتداء، والخبر: {لاَ رَيْبَ} ويَصحُّ أن يرتفعَ على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ، أي: ذلك تنزيل، والريبُ: الشك، وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله {رَيْبَ المنون} [الطور: 30].
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ} إضرابٌ؛ كأنَّه قال: بل أيقولون: ثم ردَّ على مقالتِهم وأخبَرَ أنّه الحقُّ من عند اللّه.
وقوله سبحانه: {مَا ءاتاهم} أي: لم يُبَاشِرْهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العربُ.
وقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] يعم من بُوشِر من النذُر ومَنْ سَمِع بهِ، فالعربُ مِن الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه، لأنها علمت بإبرَاهيم وبنيه، وبدعوتهم، ولم يأتهم نذيرٌ مباشرٌ لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى: لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (5- 9):

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}
وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض...} الآية، الأمر اسم جنسٍ لجميعِ الأمور، والمعنى يُنَفِّذُ سُبْحَانِه قضاءَه بجميع ما يشاءه، ثم يعرج إليه خبرُ ذلك في يوم من أيام الدنيا؛ مقداره أن لو سِيرَ فيه السيرَ المعروف، من البشر ألفُ سنة، أي: نزولاً وعروجاً لأن مَا بين السماء والأرض خمس مائة سنة، هذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقيل: المعنى: يدبر الأمر من السماء إلى الأَرض في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عَدِّنا، وهو على الكفار قَدْرُ خمسينَ ألفِ سنة. وقيل: غَيْرَ هذا وقرأ الجمهور: {الذي أحسن كل شيء خلقَه}: بفتح اللام على أنه فعلٌ ماضٍ ومعنى: {أحسن}: أَتْقَنَ وأحْكَمَ فهو حَسَنْ من جهة مَا هو لمقاصِده التي أريدَ لها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {خَلْقه}: بسكون اللام وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن: {أحسن} هنا معناه: ألْهَمَ وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
أي: ألهَمَ. والإنسانُ هنا آدم عليه السلام والمَهِينُ: الضعيف، {وَنَفَخَ}: عبارة عن إفاضَةِ الرُّوحِ في جَسَدِ آدم عليه السلام والضميرُ في {رُّوحِهِ} للَّهِ تعالى، وهي إضافة مُلْكٍ إلى مَالِكٍ وخَلْقٍ إلَى خَالِقٍ، ويُحْتَمل أن يكونَ الإنسانَ في هذه الآية اسمَ جنسٍ و{قَلِيلاً} صِفَةً لِمصدَرٍ محذوف.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}
وقوله تعالى: {وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي: تَلَفْنَا وَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُنَا، فذهبنا في التراب حَتَّى لَمْ نُوجَدْ؛ {أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أَنُخْلَقُ بَعْدَ ذلك خَلقاً جديداً؛ إنكاراً منهم للبعثِ واستبعاداً له، و{يتوفاكم} معناه يَسْتَوِفِيكم؛ رُوِيَ عَن مجاهدٍ: أن الدنّيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ المَوتِ كالطِّسْتِ بَيْنَ يَدَي الإنْسَانِ يأخُذُ مِنْ حَيثُ أُمِرَ.
وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ} الآية تَعْجِيبٌ لمحمَّد عليه السلام وأمته من حالِ الكفرةِ، ومَا حَلَّ بهم، وجوابٌ {لَو} محذوفٌ؛ لأنَّ حذفَه أَهْوَلُ في النفوس، وتنكيسُ رؤوسهم هو من الذل واليأسِ والهَمِّ بحلُول العذابِ. وقولهم {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي: ما كنا نُخْبَرُ به في الدنيا، ثم طلبوا الرَّجْعَةَ حينَ لاَ يَنْفَعُ ذَلكَ. ثمَّ أخْبَرَ تعالى عن نَفْسهِ أنَّه لو شَاء لهدى الناس أجميعن؛ بأن يَلْطُفُ بهم لُطْفاً يؤمنونَ به، ويخترع الإيمانَ في نفوسهم، هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ، و{الجنة}: الشياطينُ، و{نَسِيتُمْ} معناه: تركتم؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله: {إِنَّا نسيناكم} سَمَّى العقوبة باسم الذنب. ثم أثْنَى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بآياته، ووصَفَهم بالصفة الحُسْنَى من سجودهم عند التذكير، وتسبيحِهم وعدمِ استكبارهم.